في عيد الموسيقى: تطوُّر الموسيقى العربية من زمن حمولي إلى سيد درويش، عبد الوهاب وصولاً إلى بليغ حمدي والأخويْن الرحباني

12:00
21-06-2024
أميرة عباس
في عيد الموسيقى: تطوُّر الموسيقى العربية من زمن حمولي إلى سيد درويش، عبد الوهاب وصولاً إلى بليغ حمدي والأخويْن الرحباني

الموسيقى وسيلة للخلاص، "ولولا وجود الموسيقى في هذا العالم واللغة التي نشأت وتطورت بنشأة وتطور الوعي ما كنا ككائنات نستطيع التواصل فيما بيننا على الإطلاق، فضلاً عن النجاة من منظور تطوّري"، هذا ما يقوله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه "ميلاد التراجيديا"... ومن عالمنا العربي يقول د. مصطفى محمود في كتابه "نار تحت الرماد": "الفن الراقي يقيم معبداً للجمال في القلب". لهذا الحد وأكثر تكمن مدى أهمية الفن والموسيقى في الحياة البشرية، واليوم يُصادِف عيد الموسيقى أو اليوم العالمي للموسيقى، وهو المناسبة التي إبتكرتها الدولة الفرنسية بفكرةٍ من وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك لانغ ومدير الرقص والموسيقى موريس فلوري وذلك تحت مُسمّى La Fête de la Musique عام 1982، وبعدها تصدّر هذا العيد مختلف دول العالم. وبهذه المناسبة نرصد هنا كيفية تطوُّر الموسيقى العربية حيث تنقسم إلى مراحل تحمل كل مرحلة منها إسم أعلام الموسيقى العربية من زمن عبده حمولي إلى سيّد درويش، محمد عبد الوهاب، وصولاً إلى بليغ حمدي والأخويْن الرحباني.


للتنويه، قبل شرح بعض المعلومات حول هذا الإطار نشير إلى أنّ جذور الموسيقى العربية بدأت منذ العصر الجاهلي قبل الوصول إلى العصور التي شهدت تطوّراً ملحوظاً في الموسيقى العربية بالتزامن مع تطوّر مدارس الشعر والأدب بشكل عام لا سيّما العصر العبّاسي والأندلسي، لكن كي لا يطول شرحنا سنكتفي برصد المعطيات المتعلّقة بالموسيقى الحديثة والتي تنطلق مع الراحل عبده حمولي.
قبل هذه المرحلة، تأثّرت الموسيقى العربية بالموسيقى التركية (خلال فترة الحكم العثماني)، لذلك نلاحظ بعض التشابه في النمط الموسيقي بينهما أحياناً وهذا يعود إلى التبادل الثقافي الواسع بين الحضارة العربية والتركية لأسباب تاريخية وسياسية، فالموسيقى العربية الشرقية تأثّرت في القرون الماضية بالمقامات الموسيقية التركية والفارسية وهذا ما ينطبق على زمن "عبده حمولي وألمظ" لحين عاش الفن مرحلة موسيقية جديدة مع سيّد درويش الذي أدخل مقامات جديدة منَحَت هوية خاصة للموسيقى العربية بعيداً عن الموسيقى التركية التي بدورها تشابهت مع موسيقى بلادنا بما يسمّى موسيقى "أرابيسك"(من روّاد هذا النوع من الموسيقى الفنان التركي إبراهيم تاتليسس). ولعلّ أبرز الدلائل حول تقاطع الموسيقى العربية والتركية تظهر عبر إستعمال الأتراك في أغنياتهم للكلمة العربية (يا ليل) وما تفرّع عنها مثل (يالاللي)، كما نستعمل في الغناء العربي حتى اليوم (جانم وأفندم) و(آمان) وهي كلمات تركية. كما تأثّرت الموسيقى التركية بما يُعرف بالموسيقى الأندلسية الشرقية التي تأثّرت بها أيضاً المقامات الموسيقية العربية، وهذا تقاطع آخر بين الموسيقى العربية والتركية الذي أنتج عنه "التخت الشرقي" التقليدي الذي يعتمد على آلات موسيقية أساسية وترية وإيقاعية ونفخ مثل العود، القانون، الدف، الدربكة والناي.

أما بعدها، وتحديداً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بدأت تتطوّر الموسيقى العربية بمجهود يعود للراحل عبده حمولي الذي عاش في قصر حاكم مصر وقتذاك أي في عهد الخديوي إسماعيل الذي كلّف الموسيقار الإيطالي Giuseppe Verdi بتأليف أوبرا عايدة وبناء دار الأوبرا المصرية. واحتضن الخديوي عبده الحامولي الذي كان يغنّي في القصر وتزوّج الحامولي من المطربة الشهيرة في ذاك العصر "ألمظ" (جسّدت دورها الراحلة وردة الجزائرية في فيلم أُنتج عام 1962 للمخرج حلمي رفلة)، ومن أشهر تلامذة حمولي نذكر الموسيقار الراحل سيد درويش الذي تعلّم أيضاً الموشّحات العراقية والقدود الحلبية على يد أحد رواد نهضة الموسيقى العربية عثمان الموصلي الذي يختلف المؤرّخون الموسيقيّون حول ملكية الموصلي لبعض الأغنيات الشهيرة التي نُسبت لسيّد درويش وأبرزها "زوروني كل سنة مرة" و"طلعت يا محلى نورها"، لكن ما يهمّنا هنا أنّ تلمذة سيد درويش على يد حمولي في مصر والموصلي في الشام ساعدته في دمج مدرستيْن من الموسيقى آنذاك.
مع سيّد درويش، عاشت الموسيقى العربية في نهاية القرن التاسع عشر مرحلة إنتقالية نوعية ليس فقط لناحية المقامات الموسيقية إنما لنوعية كلمات الأغنيات أيضاً التي ألّفها سيّد درويش حين شكّل ثنائي مع الشاعر الراحل بديع خيري، وكانت تحمل الكثير من المعاني الهادفة لإيصال رسائل سياسية وإقتصادية أشهرها أغنية "الحلوة دي" التي تتمحور حول "الصنايعيّة" أي الطبقة العاملة (البروليتاريا) على عكس ما تعتقد الجماهير العربية بأنّها مجرد أغنية "طقطوقة للفرفشة"! وما ميّز سيد درويش عن أستاذه حمولي بأنّه أدخل مقامات جديدة على السلّم الموسيقي العربي على عكس حمولي الذي ظلّ متأثراً بالموسيقى التركية.
ثمّ بالإنتقال إلى القرن العشرين، برز العديد من الموسيقيّين الذين شكّلوا أعلاماً ومدارس موسيقية في العالم العربي ما دفع بمزيد من التطوّر الموسيقي وإضفاء هوية خاصة للموسيقى العربية رغم إتهامهم بعض المرات من إقتباس الألحان، وأهمهم: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، بليغ حمدي، الأخويْن عاصي ومنصور الرحباني اللذان ساعدا في نشر الأغنية اللبنانية في العالم العربي، كما وُلِدت أسماء جديدة في موسيقى الخليج العربي التي طوَّرتها.

أما اليوم فللأسف تعيش الموسيقى العربية حالة من التشتّت وشبه إنكار للجذور من شدة تأثّرها بالموسيقى الغربية رغم أنّ الفن الغربي بات يعتمد أيضاً على آلات موسيقية شرقية لاسيّما الإيقاعية منها، فهل نظام الإنفتاح العالمي والعولمة الكونية هو السبب في ضياع هوية الموسيقى العربية راهناً ولاحقاً؟!