"أولاد آدم":عمل مميّز بإيديولوجيا "الهوّارة" عبر عيون واقعيّة !

8:00
24-05-2020
أميرة عباس
"أولاد آدم":عمل مميّز بإيديولوجيا "الهوّارة" عبر عيون واقعيّة !

في السياسة والإقتصاد والحياة عامة إنْ أَمْسَكْنا العصا من وسطها لتصبح صولجاناً سنكون أشخاص رماديّين دون مواقف واضحة لكن الأمر يختلف في صناعة الدراما خاصة في زماننا المُعاصر، فصنّاعها الرئيسيّين أي المؤلف، المخرج، المنتج والممثل يخضعون للغة سوق مفروضة علينا جميعاً بمختلف مجالاتنا المهنية، وللأسف إذا إنحصر الفن بترجمة اللغة التجارية في السوق الدرامية سيخسر قيمته وإبداعه، لذلك يجب على صنّاع الدراما في هذا الزمان إمساك العصا من وسطها كي يستطيعوا تقديم عمل درامي ذي قيمة فنية إبداعية وفي ذات الوقت يُحاكي اللغة المطلوبة راهناً، وهذا ما تمكّن من فعله مسلسل "أولاد آدم" حينَ "مسك العصا من نصّها".

هذا العمل يجمع في بطولته كل من: ماغي بو غصن (ديما)، مكسيم خليل (غسان)، دانييلا رحمة (مايا/ باسمة) وقيس الشيخ نجيب (سعد)، مع مجموعة من نجوم الدراما أبرزهم: طلال الجردي، رودني الحداد، ندى أبو فرحات، رانيا عيسى، كارول عبود، مجدي مشموشي، فيفيان أنطونيوس وغيرهم، وهو من تأليف رامي كوسا، إخراج الليث حجو وإنتاج إيغل فيلم.

فساد الدولة منبعه الفرد ومجموعة الأشرار

أما عن قصته الدرامية المتصارعة بين الخير والشر، فهي تُجسّد حرفياً مدى إقتباس الأعمال الدرامية من واقعنا الأليم ولعلّ مسلسل "أولاد آدم" يُكرّس تساؤلنا الأكثر تداولاً على أَلْسِنتنا كلًما رأينا بشاعةً ألا وهو "شو هالزمن يلّي وصلنالو؟!"، إذ يعكس هذا المسلسل شر الفساد في كافة أوجهه على الصعيديْن الفردي والجماعي، فنظريات علم الإجتماع بأغلبها تُقِر أنّ الفساد المُستشري في الدولة منبعه الفرد، فَلَولا الفساد الفردي لَمَا وُلِد الفساد الجماعي وهذا ما ينطبق على مفهوم فساد البلد "دولةً وشعباً". لذلك عالج المسلسل المذكور فساد الأفراد مثلما تناول فساد الإعلام والقضاء وغيرها.

فلسفة الأخلاق والتبرير الإيديولوجي لإرتكاب الخطيئة

هذه المعالجة للفساد ضمن العمل تتأرجح بين شخصياته الدرامية إذ أنّ لكل أحد منهم معياراً بحسب ميزانه كي يُبرّر فيه السبب الكامن وراء شر الفساد الأخلاقي الذي يرتكبه، فالقاضية ديما التي أصبحت لاحقاً وزيرة عدل تتبع ما يُعرف بحسب علم الأخلاق المُعاصر بمبدأ "الضرر المسموح به" المُلتصِق بمبدأ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت Immanuel Kant الذي يُنادي في فلسفته الأخلاقية بالضرورة الجازمة، لذلك تُحاول ديما المناداة بالعدالة وتطبيق القانون لكن للضرورة أحكامها أيضاً حين تضطر للخروج عن القانون، وهذا ما تمثّل بهروبها حين صدمت الفتى بسيارتها عوضاً عن إنقاذه من الموت وتسليم نفسها، وتهريب السجينة زينة خوفاً من إبتزازها بالفيديوهات الفاضحة لِزوجها.

أما الإعلامي غسان فَهو مريض "سايكو" ولديه "تبرير إيديولوجي" لكل خطاياه وهذا ما يبوح به مع كل فيديو يُصوّره وهو يُبرّر أفعاله الشرّيرة ويُقابلها بشرور الآخرين كي يؤكّد على أنّ جميع الناس مُرتكبين لأخطاء جمّة، وهذا ما تجلّى أيضاً في مشهد مواجهته مع زوجته حينما إكتشفت خيانته لها مع العديد من النساء عبر فيديوهات فاضحة.

بين فساد الطبقة المُخمَليّة وضحايا المجتمع من عامّة الشعب


بعيداً عن فاسدي الطبقة المخملية للثنائية الآنف ذكرها، يتمثّل فساد طبقة عامة الشعب من خلال الراقصة مايا واللص سعد، ومعهما يظهر جانب إنساني كبير يدفعنا لرؤيتهما بِعيْن الضحايا في المجتمع.
بالحديث عن الجانب الإنساني، لا بد من الإشادة ببعض التفاصيل التي تجلّت فيها العاطفة الإنسانية ضمن أحداث العمل، فتارةً نرى طفل "بياع الورد" وهو يُعاني مثل العديد من الأطفال الذين يَفْترشون شوارع المدينة للبحث عن "رزقة"، وتارةً نرى "هالة" وهي المرأة التي تعطف على سعد منذ صغره رغم أنّ لا صلة رحم بينهما في حين أنّ ذويه تركوه في شوارع الغدر وبات لقيطاً، وتارةً أخرى نرى السائق سركيس وهو يؤمّن المأوى للراقصة مايا ويرغب بمساعدتها دون مقابل. ناهيْك عن مشكلة السجينة زينة التي قتلت زوجها بسبب تعنيفه لها ولا قانون فعّال لِحمايتها فإضطرت إلى قتله. أيضاً مَسّتْنا قصة المُراهقة نور التي إنتحرت خوفاً على شرف العائلة، وقصتها وحدها تفتح نقاشاً جدليّاً واسعاً حول القمقم الفكري الذي ما زِلنا مَأسورين به مُحتّماً علينا مبدأ أنّ "شرف العائلة" محصوراً بِجسد أنثى!

النهاية تُلامِس واقعنا الغوغائي "عالهوّارة"

 

أما النهاية في هذا المسلسل وبعد إنتحار غسّان وزواج مايا وسعد، فأتت مُتَّسِمة بمنطق الهوّارة.
والهوّارة في الأصل كلمة تركية تعني فرقة من الجيش العثماني وراح يتغنّى بها سكان بلاد الشام كي ينتقدوا القمع الذي كانوا يُعانون منه آنذاك، ثمّ مع مرور الزمن إتخذت الهوّارة معنى آخر يرمز إلى الغوغائية فأصبحنا نقول "عايشين عالهوّارة" أي في زمن الفوضى بشكل عشوائي للمفاهيم المُفترَض أن تكون ثابتة. وبما أنّ هذه الفوضى مع الخطايا والشرور والفساد تتضخّم أكثر وأكثر يوماً بعد يوم دون إيجاد حل أو إستئصال جذري لهذا السرطان الإجتماعي، إختُتِم مسلسل "أولاد آدم" عبر مقطع غنائي لِملك الهوّارة الراحل آلان مرعب، وهكذا للأسف سيبقى حالنا "عالهوّارة ودبّرها مالها دبّارا..."

عناصر متكاملة بين النص، الأداء والإخراج

نضيف إلى ذلك لنُشيد بالحوار الذي أتى سلِساً وبعيداً عن التنميق المزيّف إنّما شعرنا بمدى شبهه لِتجاربنا وحواراتنا وأوجاعنا، وإستطاع المؤلّف في عمل واحد أن يُشعرنا بالتراجيديا بسبب ألم هذه الشرور، و"دقة القلب" مع خطه العاطفي ورسم الإبتسامة مع بعض نفحاته الكوميدية. كما يحمل العمل أبعاداً درامية إذ غاص بالفساد الذي يملأ هذا الكون في منطقتنا مع الصراع اليومي الذي يعيشه الإنسان بين مبادئ تُشبهه وأخرى تُفرَض عليه رغماً عنه.

إكتملت العناصر الدرامية الآنف ذكرها مع أداء محترف للممثلين إذ أمتعتنا الممثلة ماغي بو غصن بِإجادتها لتقديم صورة المرأة بمختلف آلامها وأوجاعها حيث صقلت خبرات سنوات عملها لتجسيد شخصية ديما مع كل تفاصيلها بإحترافية فأثّرت بالجمهور الذي تفاعل مع معاناتها وأشادَ بأدائها المُتقَن. وإستطاع الممثل مكسيم خليل إقناعنا بِشر شخصيته الدرامية حتى كرهنا غسّان، ويُعَد هذا الدور من أصعب الشخصيات التي قدّمها مكسيم لأنّه شخصية مُركّبة لِرجل يعاني من مرض السايكو، وهذا ما تطلّب منه مجهوداً كبيراً لِتبديل الحالة المزاجية للشخصية الدرامية بكافة تقّلباتها. وتمكّن الممثل قيس الشيخ نجيب من تكريس كافة أدواته التمثيلية كي يتقمّص شخصية سعد فحقّق نقلة نوعية مختلفة عن سائر أعماله السابقة وأقنعنا بشكل كبير وتعاطفنا مع معاناته منذ الطفولة رغم أنّه لصاً، وبدورها الممثلة دانييلا رحمة إستطاعت بوقت قياسي إثبات مهاراتها التمثيلية مع تَبدُّل لَهْجتها وإكتفائها بالمظهر البسيط، وبدى واضحاً مدى التدريب الذي تلقّته لتجسيد شخصية مايا والمجهود الكبير الذي بذلته في هذا الدور. ولقد أتى كل ذلك تحت إدارة وضبط محترف للمخرج الليث حجو وإنتاج ايغل فيلم.