سر النجاح الدائم لِمسلسلات ما بين قَرْنَيْن في ظل عرضها مُجدّداً عبر الشاشة!

13:00
23-06-2020
أميرة عباس

هناك عُرْف لدى أهل الصحافة والإعلام في الكتابة عن مسلسل تلفزيوني ما خلال عرضه الأوّل فقط، لكن هل فكّرنا في تناول الحديث عن ذات العمل إبّان عرضه الأول أو الثاني أو الثالث.... قد يستغرب البعض ماهيّة إستعراض هذا الطرح هنا، في الواقع لقد إستفزّنا -بالمعنى الإيجابي- مدى التفاعل الجماهيري عبر منصات التواصل الاجتماعي مع بعض الأعمال الدرامية التي يُعاد عرضها راهناً وَدَفعنا للحديث عنها مجدّداً مع مقارنة بين تأثيرها على المُتلقّي خلال عرضها الأول وإعادة عرضها لمرّات عديدة، وقمنا بإختيار مسلسليْن مختلفيْن من عدة جوانب يُعاد عرضهما خلال الفترة الحالية عبر الشاشة الفضية، ويُحقّقان إنتشاراً هاماً في العالم العربي، أحدهما مصري يعود لأواخر القرن العشرين، والثاني مسلسل سوري من القرن المُعاصر أي الحادي والعشرين.

مسلسلات "سرمديّة الهوى"!

حينما تقرأ كتاباً ما وتضعه في مكتبتك الخاصة قد تُعاوِد قراءته مرّة أخرى بعد سنة أو لربّما بعد خمس سنوات، فَتَتَمَعّن به أكثر وأكثر -وهنا يَكْمن الفرق ما بين القراءة والمُطالعة – فَتَجد في قراءتك الثانية لهذا الكتاب تفاصيلاً لم تكتشفها في قراءتك الأولى له، كما سَتَراه بنظرة أو رؤية جديدة، ولعلّ ذلك يعود لِما إكتَسَبْتَه من نِتاج خُبُرات حياة جعلَتْك تقرأ ذات الكتاب مرّة جديدة بشكل مختلف. كذلك الأمر بالنسبة للأفلام والمسلسلات التي تكتشف فيها تفاصيل جديدة ومختلفة في مشاهدَتك لها خلال عرضها الثاني أو الثالث، بالأخص تلك المسلسلات التي يمكننا وصفها بأنّها "سرمديّة الهوى" بالنسبة للمُشاهِد لِما تحمله من نوستالجيا وجدانيّة كلّما شاهدناها مجدّداً رغم مرور سنوات عديدة على عرضها الأول. من هذا المنطلق، إخترنا الحديث هنا عن المسلسل المصري "لن أعيش في جلباب أبي" الذي عُرض لأول مرة عام 1996 ويُعاد عرضه راهناً عبر شاشة دي أم سي دراما مثلما لا تمر سنة واحدة دون إعادة عرضه عبر الشاشات المصرية، والمسلسل الثاني الذي وقَعَ خَيارنا عليه هو المسلسل السوري "الندم" الذي بُثَّت أولى حلقاته في الموسم الرمضاني لعام 2016، وهو يُعرَض راهناً عبر محطّتيْن تلفزيونيّتيْن ألا وهما قناة سوريا دراما وشاشة تلفزيون أبو ظبي، ولاحظنا مدى تفاعل الجمهور مع هذيْن المسلسليْن المذكوريْن عبر مواقع التواصل الإجتماعي رغم أنّه ليس العرض الأوّل لِكليْهما.

"لن أعيش في جلباب أبي" وسر النجاح لِسنوات!

يُعَد مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" من أكثر المسلسلات الراسخة في ذاكرة الجمهور العربي من أعمال التسعينات، ونتساءل عمّا يحمله هذا المسلسل من سر يجعل المُشاهِد يستمتع به مع كل عرض جديد له، وما يميّز هذا العمل أنّ أداء ممثليه خَرج بشكل عفوي وكأنّهم بالفعل يُشاركوننا تفاصيل حياتهم اليومية، ويحفظ الجمهور العربي عن ظهر قلب العديد من الحوارات ضمن هذا المسلسل مع أسماء شخصياته. هذا المسلسل مقتبس عن قصة للراحل إحسان عبد القدوس، كان سبق وتمّ تقديمه كمسلسل إذاعي مع الراحل فريد شوقي، لكن حقّق إنتشاراً عربياً مع عرضه التلفزيوني من بطولة الراحل نور الشريف مع الممثلة عبلة كامل ومجموعة من الممثلين المصريّين عبر الشاشة الفضية، أما السيناريو والحوار فهو للمؤلف مصطفى محرّم، ومن إخراج أحمد توفيق.

تدور أحداث هذا المسلسل حول قصة الصعود من القاع إلى القمة لشخصية "عبد الغفور البرعي" من عمله في الوكالة إلى أن يصبح صاحب عمل خاص يجني منه ثروة طائلة، إلى جانب الخط العاطفي المُتمثِّل بإعجابه بفاطمة وهي بائعة الطبق الشعبي "الكُشري" التي تبادله الإعجاب أيضاً، فتمضى الأيام ويتزوج من فاطمة وينجب منها ولد وأربع فتيات، وعلى الرغم من توافر المال والرفاه للحج عبد الغفور البرعي، إلّا إنه عانى من ابتعاد ابنه الوحيد عنه وإصراره على بناء عالم خاص به بعيداً عن والده، وهنا يكمن السر في تسمية الرواية المقتبس عنها المسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، ما يوحي بالمعنى المجازي لهذه العبارة.

هنا لا بد من التنويه بأنّ قصة هذا العمل تصلح لِكل زمان ومكان حيث يُعالِج كيفية رفض الموروثات العائلية والإجتماعية ومحاولة الأولاد لإختبار الحياة بأنفسهم بعيداً عن كنف الأب أو العائلة لكنّهم في نهاية المطاف يعودون إلى جذورهم.

"الندم"... حينما يكون وجدان الإنسان مُرهَق!

"الندم" هو نص للكاتب حسن سامي يوسف، إخراج الليث حجو، إنتاج سما الفن، بطولة سلّوم حداد، محمود نصر، باسم ياخور، دانا مارديني وغيرهم، هناك إجماع بين النقّاد والصحافيّين أنّ هذا المسلسل يُعد من أهم الأعمال السورية -البَحْت- خلال هذه الفترة التي تُعاني فيها صناعة الدراما السورية المحلية من أزمة إنتاجية حيث إستطاع هذا العمل تقديم مادة درامية مكتملة العناصر، ففي قالب إجتماعي وجداني إستطاع مسلسل "الندم" أن يكون بمثابة "فشّة خلق" لتقديم دراما سورية محض رغم أزمة صناعة هذا الفن مثلما هو "فشّة خلق" للمُشاهِد المحلّي كي يُعبّر عن حال المواطن الموجوع بسبب مأساة الحرب، حتى أنّ الكاتب إعتمد على رمزية عميقة في هذا العمل لِتجسيد وضع البلد المُستَجَد، فَنأخذ على سبيل المثال، ذاك المشهد الذي يرقد فيه إبراهيم الغول (سلّوم حداد) على السرير بسبب معاناته من المرض، وإذ يتشاجر بِجانبه نجله الأكبر عبدو مع كريمته الوحيدة أي ندى، وفي حوار المُشاجرة بينهما يقوم عبدو بتوبيخ شقيقته بسبب خطيبها المُعتقَل هشام حيث يلومها بأنّه سَبَب المشاكل التي ألمّت بالعائلة منذ دخوله منزلهم معتبراً إيّاه جاسوس رغم أنّه بنظر الطرف الآخر مُناضِل، وكأنّ الكاتب أراد من خلال هذا المشهد تشبيه إبراهيم الغول بالوطن وهشام بالثورة أو الأزمة التي ألمّت بهذا الوطن فَفَتَكَت به وراح أبنائه يتشاجرون ويتقاتلون غير آبهين بمصير الوطن المريض...

عروة الغول والأداء "الحرّيف"

إلى جانب قصة مسلسل "الندم"، لا بد من الإثناء على أداء ممثّليه جميعاً على رأسهم الممثل القدير سلّوم حداد بشخصية إبراهيم الغول، أما شخصية بطل القصة عروة الغول التي يُجسّدها الممثل محمود نصر فهي شخصية إحتاجت إلى بذل مجهود كبير فَتَفوّق نصر على نفسه وبرع في تقديمها، حيث يتطلّب منه هذا الدور تقديم شخصيَّتيْن في ذات الشخصية، فَإنْ تعمّقنا في كيفية إعداده لِشخصيته الدرامية سنلاحظ ذلك جيداً إذ أنّ عروة في الفترة الزمنية التي تعود لعام 2003 ضمن العمل يُقدِّم شخصية الشاب اليافع المُندفع نحو الحياة حتى أنّ عيْناه تبرق بالأمل، أما في المشاهِد التي يطل فيها عروة وهو في زمانه الحالي أي 2016، نراه مُثْقلاً بهموم الحياة بسبب خيبات الأمل المتتالية التي أصابته، فبعدما كان يمشي وهو ممشوق القامة بات منكسراً حتى في طريقة سَيْره، لذلك، لقد بدّل الممثل محمود نصر عناصر تكوين شخصيته الدرامية فيزيولوجياً، سوسيولوجياً وسيكولوجياً بحسب التبدّلات والتغيّرات التي طرأت على حياة عروة الغول. وبالطبع إنّ هذا العمل وَضَع نصر منذ عام 2016 لغاية اليوم في مكان آخر حيث شَكَّل له نقلة نوعية حَمَّلته مسؤولية كبيرة لإختيار أعماله اللاحقة.

فضلاً عن ذلك، ننوّه أنّه منذ عام 2016 لغاية العام الجاري، تحرص القنوات التلفزيونية سنوياً على إعادة عرض مسلسل "الندم"، ونتوقّع لهذا العمل أن يبقى مادة درامية هامة سيُعاوَد عرضها خلال السنوات القادمة خاصة أنّها تُوثّق أحداث إجتماعية عَكَست الإسقاطات السياسية وكيفية تأثيرها على إنسانية المواطن في هذه المنطقة خلال الفترة الممتدة من عام 2003 إلى عام 2016.

العالم العربي ما بين المسلسليْن:الخروج من الجِلباب والندم!

أما الرابط بين هذيْن المسلسليْن الذيْن يُعرضان خلال الفترة الراهنة فيقع بتشبيههما لِما نعيشه اليوم في منطقتنا العربية، وأتعمّد عدم إستخدام العبارة "الكليشيه" المعروفة تحت مسمّى "الوطن العربي" لأنّ ذلك غير موجود على أرض الواقع إنّما نعيش في حالة من التشرذم التي تجعلنا منطقة موحّدة ومفكّكة في آنٍ معاً... وما يُراودنا في التشبيه بين مسلسل "الندم" و"لن أعيش في جلباب أبي" يَكْمن فيما نعانيه راهناً وكأنّنا حينما أردنا الخروج من عباءة أنظمتنا وقرّرنا ألّا نعيش في الجلباب الموروث أصبحنا نعاني من خيبات الأمل التي تشعر بها معظم الشعوب العربية بسبب مواجهتنا لِمصير من الفوضى الرمادية التي تجعلنا نتساءل عمّا لو أصابنا أو سيُصيبنا "الندم" أم الأجدر بنا ألّا نستسلم لِما نحن عليه!